وصايا الحبيب :: اقسام دعوية :: فداك ابي وامي يا رسول الله :: آلـرـد عـلي آلقــرآنـيـن

شاطر
8- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [سفينة المجتمع] I_icon_minitimeالسبت 19 فبراير 2011, 23:56
المشاركة رقم: #1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدي
الرتبه:
مؤسس المنتدي
الصورة الرمزية
admin

البيانات
8- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [سفينة المجتمع] Jb12915568671
الجنس : ذكر
الجدي
عدد المساهمات : 578
تاريخ الميلاد : 01/01/1983
تاريخ التسجيل : 03/10/2009
العمر : 41
التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://wsaya.alafdal.net
مُساهمةموضوع: 8- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [سفينة المجتمع]


8- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [سفينة المجتمع]


8- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [فقليله حرام]

قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(8)
فقليله حرام

" ما أسكر كثيره فقليله حرام " [75].

لعل ظاهر اللفظ يوحي بأن الخمر وحدها هي المقصودة بالحديث.

ولكني ألمح أنه قاعدة تشريعية شاملة، تنطبق على الممنوع كله والحرام كله، وتنطبق على الخمر والربا، والسرقة والغصب، والغمز واللمز، والغيبة والنميمة، والكذب والنفاق.. وعلى الجريمة الخلقية خاصة!

وقليل الخمر لا يسكر. وقليل كل شيء لا ضرر فيه..

ما شربة خمر؟ ما كأس بين الحين والآخر؟ في الحفلات مثلاً والأفراح؟!

وما كذبة بين الحين والحين بيضاء أو غير بيضاء؟

وما القروش القليلة يختلسها من مبلغ ضخم لا يمكن أن تؤثر فيه؟

وما الضرر في قليل من النفاق تسير به الأمور و " تشحم " عجلة الحياة فلا يقع فيها احتكاك ولا صدام؟

وما نظرة عابرة إلى فتاة؟

أو ابتسامة؟

أو كلمات؟

أو شيء قليل من المداعبة لا يبلغ حد الجريمة.. قبلة أو ضمة أو ما أشبه؟

فلتكن الجريمة!

جريمة عابرة.. تتم في الظلام، خلسة، لا يعلم بها أحد، ولا تؤثر في خط سير الحياة.. هل تنهد الدنيا إذا حدث ذلك أو تنهار الأخلاق؟

كذلك تبدو الأمور للوهلة الأولى.. سهلة هينة لا تستلزم التشديد ولا توجب الاهتمام!

ومع ذلك فهي حكمة بالغة تلك التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ودراية عميقة بالنفس البشرية، ونظر بعيد لا يقف عند الجزئية الصغيرة، ولا عند الفرد الواحد، ولا الجيل الواحد من الأجيال!

إنها النظرة الفاحصة الشاملة التي تأخذ في حسابها الفرد والمجتمع، والإنسان كله على امتداد حياته في تلك الأرض.

نظرة القلب المدرك البصير الذي ينفذ إلى صميم الإسلام فيستلهم روحه العميقة الدقيقة، وتنفتح له مغاليق الحكمة وغوامض الأسرار.

ومن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أجدر بأن يدرك روح الإسلام النقية الصافية، ويترجم عنها، وهو نبي الله وصفيه، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وشرح صدره.. شرح صدره للإسلام، وللحق الماثل في الكون الكبير، فكان هو النموذج الكامل للإسلام، والقمة البشرية؟!

* * *

الإدمان أول شيء يخطر على البال حين تذكر الخمر، ويذكر القليل فيها والكثير

والإدمان - كما تثبت التجربة العلمية - خطر ماثل أمام البشرية حين تبيح لنفسها الخمر، وحين تبيح لنفسها أي أداء من أدواء المجتمع الكثيرة المتعددة.

وهو في الخمر يرتكز على أساس عصبي - جسماني - وعلى أساس نفسي كذلك [76].

كل شراب - بل كل دواء - ذي تأثير معين على الأعصاب، منبه أو مسكن أو مثير أو ملطف، يفقد أثره على الأعصاب بعد قليل، لأنها تتحصن ضده وتتبلد عليه. ويحتاج الإنسان - لا محالة - إلى زيادة الجرعة أو تغيير " الصنف " لكي يحس له بمفعول.

هذا من الوجهة العصبية. أما من الوجهة النفسية فهناك العادة. والنفس تستريح لما تتعود عليه - كذلك فطرها الله لحكمة هو عالمها - وتشتاق لما تعتاده من الحركات والأفعال والأفكار والمشاعر، فيلتقي تأثر الأعصاب ومتعة النفس على الأمر الواحد في اللحظة الواحدة، فيتجاوبان، ويدفع كل منهما الآخر ويقويه!

وهذا أمر ينطبق على كل شيء! حتى لقمة الخبز وجرعة الماء، وضجعة السرير وجلسة المقعد، وحديث الإنسان إلى نفسه أو حديثه إلى الناس، ورؤية فلان أو صحبة مكان أو ألف شيء من الأشياء!

ولكن بعض هذه الأمور تداوي نفسها بنفسها فتكون بمنجاة من الإدمان - بمعنى الإسراف المضر - كما أن بعضها لا يصل إلى حد الخطر ولو وصل إلى الإدمان!

الطعام والشراب عادة يتعودها الجسم وتتعودها النفس، من حيث الكم والأنواع والمواعيد. ولكنها - في الحالة السوية - تجد الفرامل الضابطة في إحساس الشبع وامتلاء الفراغ المحدود.

ومع ذلك فقد تنحرف إلى شَرَهٍ نَهِمٍ مسعور!

ولكنها ضرورة! لا تقوم الحياة إلا بها في حالتها المعقولة السوية.

ومن ثم أبيح القول المعقول، وحرم الزائد عن المعقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [77] ولم يجعل التحريم بتشريع لأن ذلك مستحيل. وإنما ترك أمره للتوجيه والتهذيب وخشية الله وتقواه.

والنوم والراحة عادة من حيث المواعيد والمقدار والطريقة والوسيلة - مترفة أو غير مترفة - ولكنها - في الحالة السوية - تجد فراملها الضابطة في النشاط الذي تحدثه، والرغبة الذاتية في تصريف هذا النشاط.

ومع ذلك فقد تنحرف إلى كسل وتراخ وفتور.

ومن ثم أبيح القدر المعقول - إن لبدنك عليك حقاً - وحرم الترف والتكاسل والقعود.

ورؤية الناس ومخالطتهم عادة. ولكن لها ضوابطها الذاتية التي تمنع الإسراف فيها - في الحالة السوية - وهي رغبة الإنسان في التقلب بين نزعته الفردية ونزعته الجماعية ليرضي هذه وتلك.

وإلف الأمكنة والأشياء عادة.. ولا ضرر في الإدمان عليها - ما دامت في ذاتها نظيفة - ومع ذلك فالملل، وهو عنصر بشري أصيل، يحد بطريقة طبيعية من الإدمان عليها والإسراف فيها..

ولكن الخمر وغيرها من الأدواء ليس كذلك!

حين يحدث الإدمان فليست له ضوابط. وكل شارب عرضة للإدمان. لأن الأعصاب ليست لها حصانة من تأثير السموم!

ومع ذلك فسنفترض أن أغلبية من الناس تستطيع أن تشرب دون أن تبلغ حد الإدمان - وهو قول غير صحيح في واقع الأمر - فمع ذلك ليس هذا بيت القصيد!

بيت القصيد هو الأجيال القادمة...

في مسألة الخمر بالذات، يقول الطب إن أبناء السكارى يولدون وفيهم استعداد موروث لشرب الخمر، ينتقل إليهم عن طريق النطفة قبل أن يملكوا لأنفسهم القياد! ومن ثم يصبحون في الكبر مدمنين!

ويقول علم النفس إن أبناء السكير يصابون باضطرابات نفسية وعصبية عنيفة تؤثر في مستقبل حياتهم. فالولد ينظر إلى شخصية والده على أنه المثل الأعلى الكامل الذي يتلبس به ويحاول أن يحتذيه. فإذا رأى في سلوكه خللاً فإن ذلك يحدث في داخل نفسه انقساماً بين شخصين كانا من قبل مؤتلفين بل متلابسين، هما شخصيته وشخصية والده. ومن ثم يحدث نزاع داخلي عنيف، ينتهي إما بانطواء الولد على نفسه واعتزاله الحياة الحية المتحركة، إما ببروزه في هيئة مجرم صغير، يحطم كل مقدس، ويلوث كل نظيف.

أما الفتاة فيصيبها صراع من نوع آخر ينتهي بها إلى كراهية الرجال جميعاً، والنفور في المستقبل من الزواج، وما يصاحب ذلك من عقد جنسية مختلفة، أو ينتهي إلى انحرافها الخلقي ووقوعها في مهاوي الرذيلة.

وسنفترض مرة أخرى أن ذلك كله لن يقع - وهو أمر غير صحيح!

سنفترض أن النطفة لم تنقل إلى الجنين عدوى الخمر وهو واغل في الظلمات الثلاث [78]. وسنفرض أن الوالد لم يطع أولاده على سوء منه، فلم يعلموا أنه يشرب الخمر ولم يحدث في نفسهم الاضطراب.

يبقى بعد ذلك كله شيء لم تستطع اتقاءه الأجيال!

ما موقف الأب الذي يعاقر الخمر حين يعلم أن أبناءه قد وقعوا فيما وقع هو فيه من قبل؟

أيزجرهم؟ أم يرخي لهم العنان؟

ولماذا يا ترى يزجرهم وهو - بينه وبين نفسه - لا يؤمن بأن هناك ضرراً في الأمر؟ بل إنه ليؤمن أن تجربته الشخصية خير شاهد على ما يقول! ها هو ذا يشرب. فماذا حدث له؟ لم يبلغ حد الإدمان. لم يفصل من عمله نتيجة التأخر في الصباح أو الإهمال وشرود البال. لم يؤثر الشرب في مركزه الاجتماعي. لم تتلف أعصابه ولم تفسد قدرته على التفكير. وإنها كلها كأس بين الحين والآخر.. في الحفلات وفي الأفراح!! فما الضير على الأولاد إذا ساروا في نفس الطريق، وعند كبرهم " يعقلون " وتسير الأمور...؟!

هنا موطن الخطر لا يدركه الشارب في أول جيل!

إنه ينسى! ينسى أنه هو شخصياً قد نشأ في بيئة محافظة تستنكر الخمر وتَنْفر منها وتنَفِّر منها، وأنه نشأ وفي عقله الباطن فرامل قوية - مستمدة من هذه البيئة المحافظة - هي التي حالت بينه - دون أن يشعر - وبين الإسراف والإدمان. في أعماق نفسه شخص معنوي أو شخص مجسم، يمسك له العصا ويحذره، وينهال عليه ضرباً إذا تجاوز الحدود - في صورة تقريع الضمير.

وصحيح أن هذا الشخص لم يبلغ من القوة في نفسه أن يمنعه البتة، ولم يستطع أن يقفل عليه الطريق ولكنه مع ذلك موجود لا شك في وجوده. وله الفضل كله في الوقوف به عند درجة معينة لا تصل إلى الإدمان البغيض.

أما الأبناء فأين هذا الشخص في نفوسهم؟ من غرسه في أخلادهم وهم صغار؟

أبوهم؟ أو المجتمع الذي يسرح فيه آباء كأبيهم؟

كلا! لقد وجدت القدوة السيئة وانتهى الأمر، ثم لم توجد الزواجر التي منعت الجيل الأول من الإسراف!

أو قد توجد، ولكنها أضعف من الزواجر في أول جيل..

ومن ثم يشرب الأبناء فيسرفون عن ذي قبل، لأن الشخص الذي في نفوسهم، والعصا التي في يده لينة لا تترك أثراً في الضمير.

وينشأ بعد ذلك جيل ثم أجيال.. ويختفي رويداً رويداً ذلك الشخص من الضمير. ويندفع الناس بلا حاجز، ويسرفون بلا حدود.

تلك قصة الخمر على مدار الأجيال..

جيل متقيظ في أول الأمر، عيونه على الجريمة.

ثم أفراد يتسللون خفية من وراء الستار...

فإذا ظلوا في استتارهم، لا يتبجحون بالإثم ولا يسمح لهم المجتمع بذلك، فثم أمل بقاء المجتمع - في عمومه - نظيفاً من الجريمة فترة طويلة من الزمان. أما إذا أَمِنوا زجر المجتمع، فخرجوا من خفيتهم، وقعدوا على قارعة الطريق، فهنا ينشأ أول جيل منحرف. وهو انحراف بسيط في أول الأمر لا ينذر بالخطر ولا يبدو فيه النكير. ولكن الانحراف البسيط يمتد، كما يمتد ذراعا الزاوية من نقطة الصفر - نقطة الابتداء - حتى تنفرج الشقة ويبعد الذراعان..

والهاوية المحتومة في نهاية الطريق!

* * *

وهي قصة كل جريمة من جرائم الأخلاق..

قصة الكذب والخداع والنفاق والغش والتدليس.

قصة الغيبة والنميمة ونهش الأعراض وكشف العورات.

قصة الرشوة والظلم والفساد.

قصة القعود عن نصرة الحق والجهاد في سبيله.

قصة الترف والسرف والفجور والمجون.

وهي على الأخص قصة " التقاليد فيما يختص بالرجل والمرأة والاختلاط والجريمة...

يبدأ المجتمع " نظيفاً " متحفظاً لا يسمح بالاختلاط ولا يتهاون في الجريمة.

ولا نقصد " بالنظافة " أنه مجتمع من الملائكة الأطهار قد خلا من الجريمة. فهذا شيء لم يحدث في التاريخ!

ولكنا نقصدها بمثل المعنى الذي يستخدم في الشئون الصحية. فحين تقول الهيئات الطبية إن المدينة " نظيفة " تقصد أنها نظيفة من الأوبئة الخطرة، ولا تقصد أنها خالية من حالات فردية من هذه الأمراض.

في هذا المجتمع النظيف توجد حالات فردية غير نظيفة. ولكنها قليلة ومستترة وعدواها محدودة. وذلك نتيجة الحرص الدائم الذي يبذله المجتمع في عملية التنظيف.

ولكنه في وقت من الأوقات يتراخى...

عندئذ يأخذ الوباء في الانتشار التدريجي البطيء.

وفي حالة الأوبئة الجسمية ينتشر المرض بسرعة وبطريقة ملموسة مميتة.

ومن هنا يهب الناس للوقاية والكفاح في أسرع وقت ويتساندون ويتكاتفون لوقف الوباء.

ولكن الأوبئة النفسية ذات طبيعة أخرى.

فالنفس بطبيعتها استجابة من الجسم. والمناعة النفسية اللاشعورية - حين توجد - تستطيع أن تقاوم المرض أو على الأقل تخفف حدته القاتلة مدى أجيال.

ولذلك فالفساد الخلقي بطيء المفعول جداً. وقد تمر أجيال كاملة على مجتمع منحل الأخلاق قبل أن ينهار. بل إن الانحلال قد يستشري في جيل من الأجيال الأخيرة إلى حد يعييك فيه البحث عن جماعة واحدة فاضلة. ومع ذلك فقد لا تقع الكارثة في هذا الجيل بالذات. ومن ثم يغرى الناس بالظن أن كل النذر خرافة، وأنهم مستمتعون بكل ما يشتهون، ثم ناجون مما كانوا يحذرون!

ولكن سنة الله في النهاية تتحقق! لم تتخلف مرة واحدة في التاريخ!

لم يحدث أن استمتع الناس بشهواتهم الزائدة إلى غير حد، ثم استمروا إلى الأبد أقوياء متماسكين قادرين على الحياة!

وهذه صفحة التاريخ مفتوحة لمن يريد.

صفحة اليونان القديمة وروما القديمة وفارس القديمة، والعالم الإسلامي حين غرق في الشهوات، ثم صفحة الغرب في جاهليته المعاصرة.

تبدأ الجريمة بسيطة خفيفة لطيفة..

اختلاط بريء تحت لإشراف الآباء أو غيرهم من المشرفين..

ونزهات لطيفة أو نواد ظريفة، ولا بأس فيها من إتاحة شيء من الخلوة " البريئة " بين شاب وفتاة.

وما الذي يمكن أن يحدث في خلوة كهذه بريئة وعين الرقيب على بعد خطوات.. أو حجرات؟!

ابتسامة من هنا وكلمة إعجاب من هناك؟

وضمة خاطفة في غفلة من الرقيب؟ وقبلة طائرة تطفئ الغلة أو تشعل اللهيب؟

" يا سيدي "!

ثم يحدث ما يحدث في الخمر..

الإدمان..

الكأس الأولى تصبح بعد حين تافهة ضئيلة المفعول. لا بد من كأس ثانية.

والقبلة الأولى تغري دائماً بالمزيد، لا يمكن أن تتوقف، ليس ذلك من طبائع الأشياء.

ولكن الجيل الأول مع ذلك لا يسرف في الجريمة، ولا يصل إلى الإدمان المجنون.

هنالك الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ومعه العصا ينذر ويحذر ويهدد بعظائم الأمور. وهنالك التقاليد التي تربط المجتمع ولا يسهل الخروج عليها دفعة واحدة. ومن ثم لا تحدث الجريمة كاملة في أول جيل، وإنما " يتبحبح " الناس قليلاً ويفكون القيود.

ويمضي المجتمع في طريقه منتشياً لا يحس بالخطر، ولا خطر - حتى الآن - هناك.

ويظن المجتمع - نظرياً - أنه قادر على ذلك إلى غير نهاية. قادر على أن يفك القيود ومع ذلك لا يقع في الجريمة أو لا يصل إلى الإسراف المعيب.

وهو مخلص في عقيدته تلك الضالة لأنه يقيس على نفسه ويغفل حقيقة الأمور.

يغفل الضوابط الخفية التي أنشأها في أعماق نفسه الجيل السابق المتحفظ. والتي لن يخلفها هو للجيل المقبل لأنه غير مؤمن بها، يظنها تشدداً بلا ضرورة ولا لزوم!

ينسى الرجل أنه قد رأى أمه متحفظة لا تختلط بالرجال، ورآها مكتسية لا يتعرى من جسمها شيء، ومن ثم تقاومه هذه الصورة على غير وعي منه وهو يدعو فتاة غريبة إلى الاختلاط به، ويدعوها إلى تعرية نفسها أو جسدها ليستمتع به.

نعم تقاومه حتى وهو مندفع الشهوة، فلا يسرف، ولا يتبجح بالإثم.

والفتاة التي رأت أمها متحشمة وزرعت في نفسها النفور من العري - النفسي والجسدي - تتحفظ كذلك - بوعي منها و بغير وعي - حتى وهي تهم بالانزلاق، فلا تسرف ولا تتبجح بالإثم.

ثم يتراجع هذا الجيل..

ويجيء جيل جديد تربية الأم التي ذاقت في شبابها " متعة " التحلل البسيط من القيود، والأب كذلك.

الأم والأب اللذان ذاقا شيئاً من المتعة ولم يسقطا السقوط الكامل - والأم خاصة - لن ينظرا إلى التقاليد " المتزمتة " بعين الاحترام.

علام التشدد؟ ألم ينفلتا هما من هذا التشدد ولم يحدث شيء؟ " فليتبحبح " الأولاد " قليلاً " ولا ضير!

ومن ثم ينشأ الجيل الجديد وقد ضعف الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ولانت العصا فلم تعد تترك أثراً في الضمير، وتفككت التقاليد فلم تعد تمنع المحظور.

ويتراجع هذا الجيل..

ويأتي جيل يرى أمة قد تعرت، من شيء من الثياب وشيء مماثل من الفضيلة (والجسم والنفس صنوان في هذه الأمور!)

الولد الذي يرى أمه عارية لا تثور في نفسه نخوة الرجولة والحرص على الأعراض، فقد زالت في نفسه حرمة الجسد، وصار نهباً يباح للعيون، وبعد ذلك لما هو أكثر من العيون.

والبنت التي ترى أمها عارية لا تؤمن بالقيد.

ويلتقي هؤلاء الأولاد والبنات، يلتقون على شهوة الجسد الفائرة، ويلتقون بلا ضابط ولا حدود، وتتم الدورة المحتومة، والهاوية في آخر الطريق.

* * *

والبشرية - حين تترك وشأنها - قليلاً ما تتذكر، وقليلاً ما تتدبر عبرة التاريخ!

كل جيل يدفعه الغرور من ناحية، والنشوة الفائرة من ناحية أخرى، فيظن أن تجربته جديدة لم تمر على أحد من قبل، وأنه ليس مقيداً بسنة التاريخ.

ما أسهل ما يقول لنفسه: إن الأمة الفلانية قد انهارت لكذا، أو الشخص الفلاني قد تحطم لكيت. أما أنا فلن أقع في غلطته ولن يحدث لي ما حدث هناك. لن يفلت مني الزمام. لن أدع شيئاً يغلبني. سأصحو قبل أن أبلغ الهاوية. أنا شيء آخر غير الناس من قبل.

ويجيء " العلم " في القرن العشرين فينفخ في الناس نفخة كاذبة. يخيِّل لهم أنهم خلق غير ما مر من الأجيال في التاريخ كله. خلق لا تنطبق عليه سنة ولا يخضع لسابقة. إنه عصر الذرة وعصر الصاروخ. عصر يكتب تاريخه بنفسه، ينشئه على مزاجه، يخلق جديداً كل يوم؛ يفتح آفاقاً لم تتفتح من قبل؛ " يقهر " الطبيعة ويسخرها بعد أن كانت هي التي تقهره وتسيره مرغماً في طريق لم يختره لنفسه ولا يد له في تكييفه!

كذلك ينفخ " العلم " في نفوس الناس. أو ينفخ فيهم شيطان الغرور:

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [79].

ولقد أضل الشيطان هذا الجيل من البشرية كما لم يضل أحداً من البشر، لأنه أعرض بجانبه ونأى عن الله. وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)! (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [80].

وهذا الجيل من البشرية يخيل له أن ناج من سنة الله التي خلت من قبل. وناج من حتمية النتائج حين توجد الأسباب. وناج من الهاوية التي تفغر فاها في نهاية الطريق!

هذا وهو يرى بعينيه أن العالم كله مهدد بالدمار والخراب الرهيب!

أي غفلة تصيب الناس حين ينأون عن طريق الله وحين يغترون ويستكبرون؟!

(.. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [81].

* * *

نعم. حين تترك البشرية وشأنها فقليلاً ما تتذكر، وقليلاً ما تتدبر عبرة التاريخ.

إنهم لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن هذا الطوفان الهائل من الفساد قد بدأ من نقطة الصفر! من النقطة التي ينفرج فيها ذراعا الزاوية، فرجة بسيطة للغاية في مبدأ الأمر، ثم تتسع الشقة كلما مضى الزمن وتتابعت الأجيال.

لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن الكأس الأولى تتبعها الثانية. والقبلة الأولى تفتح الطريق للجريمة.

لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن البشرية لم تقف يوماً عند القليل الذي لا يضر، ما دامت تبيحه على أنه أمر واقع، وأنه لا يضر! وإنما تجاوزته حتماً إلى الكثير الذي يغرق كالطوفان.

لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن المجتمع - وهو النهر الذي يشرب منه الجميع - لا يمكن أن يظل بمنأى عن التلوث بينما الأقذار تلقى على الدوام فيه، ولا يمكن أن يظل الشاربون على سلامتهم وهم يشربون الأقذار.

ولكن الإسلام يصدق هذا لأنه يراه.

الإسلام كلمة الله في الأرض. والله هو الذي خلق الخلق وهو أدرى بما فطرهم عليه:

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [82].

وقد حرص الإسلام حرصاً شديداً على هذا الأمر، لأنه يرى - بالعين البصيرة النافذة - تسلسل البشرية وتعاقب الأجيال وتماثل النتيجة عند تماثل الأسباب.

يرى الزاوية التي تبدأ من نقطة الصفر. ثم تبعد الشقة بين ذراعيها بُعْدَ ما بين الأبيض والأسود، والحلال والحرام.

يرى الكأس الأولى تتبعها الثانية، والقبلة الأولى تؤدي إلى الجريمة. ومن ثم يقف في يقظة دائمة لكل كأس عابرة وكل قبلة حرام. ولا يقبل في ذلك حجج المستهترين كلهم وما يتمسحون به من التعللات.

لا يقبل قول الذي يقول: اسمح لي بهذه واطمئن أنني لن أسرف فيها، ولن أتجاوزها إلى جديد!

لا يقبله لأنه ليس له رصيد من الواقع، وكله أوهام!

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يشرح بأعماله وأقواله الصورة المفصلة للإسلام، ويجلوها في عالم الواقع.. كان الرسول على ذكر دائم وبصيرة كاملة بهذا التسلسل الذي يربط أجيال البشرية، والوحدة التي تشملها أفراداً وجماعات، وأجيالاً إثر أجيال.

كان على بصيرة من انتقال العدوى من شخص إلى شخص ومن جيل إلى جيل. بل بانتقال العدوى في النفس الواحدة من فكرة إلى فكرة ومن شعور إلى شعور!

وكان الدائم التنبيه لهذا الأمر:

" الحلال بيّن، والحرام بيّن. وبينهما أمور متشابهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه! " [83].

" إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " [84].

من أجل ذلك قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".

وأخذ عنه المسلمون هذه القاعدة التشريعية الشاملة فقال فقهاؤهم إن وسيلة المحرم محرمة لأنها تؤدي إليه. فالفاحشة حرام، والنظرة إلى الأجنبية حرام لأنها تؤدي إلى الفاحشة.

وسرت هذه القاعدة في كل التشريع.. وسرت كذلك إلى صميم المجتمع. فكان كل فرد دائم اليقظة إلى الناس يحذر أن توجد الكأس الأولى التي تؤدي إلى الطوفان. " أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك "!

* * *

والإسلام يعلم أنه مهما صنع فلن يبطل الجريمة ولن يلغي الفاحشة من البشرية!

نعم. يعلم ذلك على اليقين. ولا يدفن رأسه كالنعامة في الرمل ويقول: ما دمت لا أراه فهو غير موجود!

ولكنه - مع ذلك - لا يعترف بالجريمة كأمر واقع، ولا يقبلها على هذا الوضع!

موقف بالضبط كموقف الطبيب المشرف على وقاية الناس من الأمراض.

إنه يعلم أنه مهما صنع فلن يمنع المرض من الوجود، ولن يصبح الناس كلهم محصنين!

ومع ذلك فلا ينهزم أمام المرض ولا يتركه يتفشى فيتحول إلى وباء.

مهمته الدائمة هي العراك مع الأمراض.

ويعلم علم اليقين أنه ستظل هناك حالات فردية لا تنفع فيها الوقاية، وقد لا ينفع كذلك العلاج.

ولكنه يصر على المقاومة، ولا يلجأ إلى الهزيمة، ويقول - وهو صادق - إن المدينة " نظيفة " ما دامت خالية من الوباء.

وكذلك يصنع الإسلام في وقاية البشرية.

يقف لكل جريمة مفردة ليحاول منعها من الانتشار، ولا يستهين بها مهما تكن من الضآلة في مبدأ الأمر. فجرثومة الكوليرا الواحدة المفردة تقتل في النهاية مئات الألوف ومئات الملايين. وجرثومة الفساد الواحدة تقتل شعباً بأكمله.

وهو يقف للجريمة بكل وسائل الوقوف.

يقف لها داخل الضمير. فالمناعة تنبت من داخل النفس.

ينظف هذا الضمير ويهذبه ويربطه بالله: " تعبد الله كأنك تراه ".

ويقف لها في المجتمع بإقامة التقاليد التي تجعل الفضيلة عادة وتجعل الجريمة منكرة مرهوبة.

ثم يقف لها بالتشريع الذي يعاقب على الجريمة.

وحين تقع الجريمة في هذا الجو، فهي كحالة المرض المفردة التي قد لا تنفع فيها الوقاية ولا ينفع فيها العلاج. ولكن الوقاية والعلاج يفلحان في منع انتشارها وتحولها في النهاية إلى وباء.

وقد أمر الله بمنع الفاحشة ووضع لذلك الحدود.

ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يضع - الشرح المفصل للحدود حين قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".

ولم يكن صلى الله عليه وسلم متشدداً، متزمتاً بلا ضرورة.

إنما كانت الحكمة الخالصة التي فتح لها قلبَه اللطيف الخبير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

[75] رواه أبو داود.

[76] انظر فصل " النفس والجسم " من كتاب " في النفس والمجتمع ".

[77] سورة الأعراف [ 31 ].

[78] " يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ " سورة الزمر [ 6 ].

[79] سورة يس [ 60 - 62 ].

[80] سورة الزمر [ 49 ].

[81] سورة الزمر [ 49 - 51 ].

[82] سورة الملك [ 14 ].

[83] رواه البخاري.

[84] رواه أبو داود.


الموضوع الأصلي : 8- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [سفينة المجتمع] // المصدر : منتديات أحلى حكاية // الكاتب: admin


توقيع : admin








مواضيع ذات صلة


8- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [سفينة المجتمع] Collapse_theadتعليمات المشاركة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة




Powered by wsaya
Copyright © 2015 wsaya,