وصايا الحبيب :: اقسام دعوية :: فداك ابي وامي يا رسول الله :: آلـرـد عـلي آلقــرآنـيـن

شاطر
9- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [ادرءوا الحدود بالشبهات] I_icon_minitimeالسبت 19 فبراير 2011, 23:54
المشاركة رقم: #1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدي
الرتبه:
مؤسس المنتدي
الصورة الرمزية
admin

البيانات
9- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [ادرءوا الحدود بالشبهات] Jb12915568671
الجنس : ذكر
الجدي
عدد المساهمات : 578
تاريخ الميلاد : 01/01/1983
تاريخ التسجيل : 03/10/2009
العمر : 41
التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://wsaya.alafdal.net
مُساهمةموضوع: 9- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [ادرءوا الحدود بالشبهات]


9- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [ادرءوا الحدود بالشبهات]


9- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [ادرءوا الحدود بالشبهات]


قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(9)


ادرءوا الحدود بالشبهات


 


" ادرءوا الحدود بالشبهات " [85].


" ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فمن كان له ملجأ فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " [86].


* * *


" الشك يفسر في صالح المتهم ".


تلك هي القمة الإنسانية التي بلغتها أوربا بعد الإسلام بأكثر من ألف عام!


ومع
ذلك فهي لم تصل إليها في سهولة ويسر، ولم تصدر فيها عن مشاعر إنسانية
خالصة، تحس بقيمة " الإنسان " في ذاته، وتقدر حرمته وكرامته وحقوقه، وتعطف
عليه حتى وهو يخطئ في حق الجماعة، ويهبط عن المستوى اللائق بالإنسان..
وإنما جاء ذلك بعد صراع مستمر عنيف، جرت فيه أنهار من الدماء وطاحت فيه
كثير من الرءوس!


كان
الوضع الذي استقر في أوربا فترة طويلة من الزمان، يقسم الناس إلى سادة في
جانب وعبيد في جانب. سادة من " الأشراف " يجري في عروقهم دم مقدس! من لون
غير دماء البشر العاديين! سادة هم الذين يملكون ويحكمون ويشرعون. وعبيد لا
يملكون شيئًا، ولا يشرعون شيئاً، وكان ما لهم هو الذل والهوان المقيم.


وحتى
القانون الروماني المشهور بعدالته " المثالية! " والذي يعتبر الأصل الذي
تستمد منه القوانين الأوربية الحديثة في كثير من المسائل، حتى هذا كان
قانوناً " للرومان فقط "! الذين يملكون حقوق المواطن الروماني. وقليل ما
هم! أما بقية الشعب في إيطاليا نفسها، ودع عنك المستعمرات والملحقات
والبلاد المغلوبة، فلم تكن تستمتع بهذا العدل الروماني، ولم تكن لها حصانة
من العسف والاضطهاد. والفرق الهائل بين عدد الأحرار وعدد العبيد يرينا إلى
أي حد كانت القلة القليلة تستمتع على حساب الكثرة المغلوبة. فقد كان
الأحرار في روما سنة 204 ق. م. 214 ألفاً، وكان العبيد 20 مليوناً من
البشر في إيطاليا، غير بقية المستعمرات!


ووجدت
في بقاع الأرض - في أوربا وفارس والهند وسواها - قوانين صريحة تفرق بين
الشريف والعبد في طريقة المعاملة أمام القضاء. وتنص على اختلاف العقوبة
على العمل الواحد. فالعبد السراق يقتل، والشريف السارق يكتفي برد ما لديه!
والمعتدي على الشريف - إن كان شريفاً مثله - فالعين بالعين والسن بالسن.
أما المعتدي على العبد فجزاؤه الغرامة! والغرامة لا تؤدى إليه إنما تؤدى
للسيد الذي يملك العبد، تعويضاً له عن " إتلاف " بعض ممتلكاته! أما السيد
ذاته فله على عبده حق القتل والإبادة والتعذيب! وحتى حين كانت القوانين
تخجل من هذه الصراحة فالتطبيق كان يأخذ نفس الروح: فالشريف لا يؤخذ
بالظنة، ولا يحاكم إلا حين تثبت عليه التهمة، ويحكم عليه بأخف العقاب.
والعبد - أي الشعب.. يسام التنكيل لأقل شبهة، ويعذب بوحشية ليعترف، ثم
يوقع عليه العقاب البشع الذي لا يتناسب مع الجرم ولا يتناسب مع "
الإنسانية "!


ولكن
استمرار الحال على هذه الصورة البشعة لم يكن من المستطاع، فلا بد أن يثور
العبيد لكرامتهم مهما طال عليهم الأمد وطال منهم السكوت..


وقامت
الثورات بالفعل مزلزلة مدمرة وأطاحت بالرءوس.. رءوس الملوك والملكات
والأشراف والنبلاء.. وتقررت - نظريا على الأقل - بعض حقوق الإنسان. تقررت
له حرماته وحقوقه وضماناته. وكان من هذه الضمانات: ضمانة الحياة فلا يموت
جوعاً. وضمانة الحياة فلا يعتدى عليه بغير الحق. وضمانة العيش فلا يموت
جوعاً. وضمانة الحريات: حرية القول والاجتماع والسفر واختيار العمل.
وضمانة العدالة في القضاء فلا يؤخذ المتهم بالشبهة، ولا يؤثر عليه في
التحقيق بالوعيد ولا بالوعد.. ويفسر الشك في صالح المتهم، فلا يحكم عليه
بالعقوبة الكاملة إلا حين تثبت التهمة بالدليل القاطع الذي لا شبهة فيه.


ثم كانت الثورة الصناعية في إنجلترا، وتلتها الحركة الرأسمالية في بلاد أوربا..


وللشيوعية
رأي في الرأسمالية: أنها استعباد من رءوس الأموال للكادحين، وامتصاص
لجهدهم الذي يبذلون فيه العرق والدماء والدموع ليتحول إلى ثراء فاجر في يد
الرأسماليين العتاة..


وإنها لكذلك..


ولكن
التاريخ قد وعى - رغم ذلك - حركة هائلة من التحرر في فترة الرأسمالية،
نقلت الشعب من مقام العبودية المطلقة والهوان الكامل، إلى وضع أقل ما يقال
عنه إنه يحمل من الضمانات السياسية والاجتماعية والقانونية ما يعترف
بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه..


إنه يحمل من الضمانات السياسية والاجتماعية والقانونية ما يعترف بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه..


ولم
يكن ذلك تفضلاً من " السادة " الحكام والملاك والمشرعين. ولا كان إحساساً
منهم بالخير الفياض في نفوسهم، والتقدير " الحر " لكرامة الإنسان كان
صراعاً طويلاً عنيفاً اصطدمت فيه القوى من الجانبين كما حدث من قبل في
صراع العبيد ضد الإقطاع.. وإن كانت لم تصحبه الثورات الدموية من الشعوب ضد
الحكام، لأن الثورة الفرنسية كانت قد قررت لهم المبادئ ولم يبق سوى
التنفيذ، ولأن العمال كانوا يملكون السلاح الذي يواجهون به الرأسمالية وهو
سلاح الإضراب!


* * *


كلا! لم تصل أوربا إلى العدالة عن تقدير صادق للكرامة الإنسانية، وشعور صادق بقيمة الإنسان! وإنما كانت خطوة خطوة  يتراجعها السادة الحاكمون ليكسبها الشعب الحاقد الغضبان!


وحتى
في العصر الحديث حين استقرت الأمور - بعض الشيء - وزال عنها شيء من شعور
الحقد، وأصبحت العدالة من أمور الحياة العادية البديهية المقررة.. وصار
القبض على شخص واحد في إنجلترا مثلاً بدون تهمة، أو اعتقاله يوماً بدون
تحقيق، يثير البلاد كلها، ويقيمها ويقعدها، وتستجوب عنه الحكومة أمام
الشعب.. حتى عندئذ لم يصطبغ القانون الأوربي أو الغربي عامة بالصبغة "
الإنسانية ". فما تزال فيه السمة الرومانية البغيضة التي كانت تقصر
العدالة من قبل على المواطن الروماني، وهي اليوم تقصرها على الرجل الأبيض،
الذي يستمتع وحده بالحقوق الإنسانية ويحرم منها بقية بني الإنسان.
والشواهد البشعة على ذلك في كل مكان على ظهر الأرض وطئه الرجل الأبيض وما
زال مسيطراً عليه، في أفريقيا وآسيا وأمريكا.. وبين البيض والملونين في كل
مكان!


أما الإسلام فلم يكن في حاجة إلى الثورة المزلزلة التي تهرق الدماء وتقطع الرءوس!


بل لم يكن في حاجة إلى مجرد المطالبة بالحقوق!


بل
لقد كان هو الذي يمنح الناس الكرامة الإنسانية، ويحرضهم على التشبث بها،
والمحافظة عليها، والكفاح من أجلها في وجوه الطغاة والظالمين!


يمنحها
متفضلاً.. ككل حق منحه للناس قبل أن يطلبوه، ورباهم على اعتناقه في ظل
العقيدة، كجزء من العقيدة، وطالبهم بإقامته - في ظل العقيدة - كفرض من
الفروض!


ولا عجب في ذلك. فالإسلام كلمة الله. والله هو المانح، والمتفضل على البشر بكل نعمة من نعم الحياة!


وقد قضى الله أن يكون الحق والعدل قوام الحياة...


الحق الذي هو صنعة الله. والذي خلق الله به السماوات والأرض: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) [87] (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ) [88] (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)
[89]. الحق الذي هو صفة كل شيء صدر عن إرادة الله، والذي ينبغي للبشر خلفائه في الأرض - أن يحكموا به كذلك: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [90] (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [91]. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [92] (فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [93].


وقد
اقتضى الحق والعدل أن يتساوى الناس كلهم أمام القانون، لأن الناس كلهم
متساوون في صدورهم عن إرادة الله، وصدورهم عن نفس واحدة خلقها الله،
ومتساوون أخيراً في مصيرهم إلى الله: (يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَاءً)
[94] (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ
) [95] (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [96] " أنتم بنو آدم. وآدم من تراب " [97].


من هذه المساواة المطلقة في المنشأ والمصير قامت المساواة كاملة في الإسلام أمام الشريعة. لا فرق بين سيد وعبد، ولا بين شريف وحقير.


يقول الرسول الكريم: "
إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق
فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت
يدها"
. [98] فيضع بذلك حداً للمظالم التي كانت قائمة في الأرض -
والتي ظلت قائمة في غير الإسلام - بعد ذلك بألف عام! ويضع حداً للخرافة
البغيضة التي تفرق بين الناس في الخلقة، وتفرق بينهم بعد ذلك في الحقوق.
ولم يكن ذلك القول خطبة حماسية جميلة لاسترضاء الشعوب، ولا مبدأ مثالياً
جميلاً معلقاً في الفضاء. وإنما كان حقيقة واقعة شهدها التطبيق العملي في
حياة المسلمين. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه، أي يدعو
الناس للقصاص منه إذا كان أحدهم يظن أنه قد ظلمه أو اعتدى عليه!! وكان عمر
يجلد ابن عمر لأنه شرب الخمر، وهو ابنه وهو شريف من قريش!


أما
العبيد الأرقاء بالفعل، فقد عمل الإسلام على تحريرهم، وسلك إلى ذلك مسالك
شتى. وإن كانت قد بقيت منه بقية في نطاق ضيق فذلك لأن الأمر كان يرتبط
ارتباطاً أساسياً بأسرى الحرب، والمعاملة فيهم بالمثل، وكان الرق هو مصير
أسرى الحرب في معظم الأحوال [99].


ولكن
المهم - ونحن بصدد التطبيق القانوني - أن الإسلام - وهو يعترف بالرق
كضرورة مؤقتة يعمل دائماً على الخلاص منها - لم يبح " للسادة " أن يميزوا
أنفسهم على عبيدهم، ولم يبح لهم التصرف " الحر " في هؤلاء العبيد: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه " [100].


ولم
يكن ذلك أيضاً كلمة تقال في الهواء، ولا مبداً مثالياً معلقاً في الفضاء.
وإنما كان حقيقة واقعة شهدها التطبيق العملي في حياة المسلمين. فقد أمر
الرسول صلى الله عليه وسلم بالقصاص من رجل جبّ عبده. وقصة عمر مع الشريف
الذي لطم عبداً لأنه داس عفواً على ذيله أثناء الطواف في الحج معروفة، فقد
أصر عمر على القصاص.. على أن يلطم العبد ذلك الشريف.. وظل الشريف يرجو
ويشفع وعمر يصر.. حتى فر الرجل أخيراً وارتد عن الإسلام!


أما
البلاد المفتوحة، فقصة القبطي الذي جاء يشكو ابن عمرو بن العاص لأنه ضرب
ابنه بغير حق، فأمر عمر بأن يضرب القبطي ابنَ عمرو ويقتص منه.. هذه القصة
وحدها تحمل الدليل!


* * *


تلك أولى مراحل العدالة في الإسلام! المساواة بين الناس كلهم أمام الشريعة..


ولكنها درجة واحدة وبعدها درجات..


فالإسلام
لا يكتفي بأن تكون المعاملة للجميع واحدة.. ولكنه يعطي إلى جانب ذلك شريعة
هي في ذاتها عادلة فلا يظلم ولا يحيف. فالشرع لا يعرف قول القائلين:
المساواة في الظلم عدل! وإنما هو العدل، والمساواة في العدل!


وليس
هنا مجال التفصيل في عدالة الشرع الإسلامي.. فقد عرضنا ذلك التفصيل في فصل
" الجريمة والعقاب " في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام " ولكنا نقول
هنا - بغاية ما نستطيع من إيجاز - إن الشرع الإسلامي يبلغ قمة العدالة حين
ينظر إلى الفرد والمجتمع في آن واحد، ليتأكد من أن كلاً منهما يأخذ حظه من
الحقوق، ويؤدي نصيبه من الواجبات. وأن أيا منهما لا يظلم لحساب الآخر، أو
يفتات على أخيه.


فبينما
كانت القوانين في الدول القديمة - وما زالت في الدول الجماعية في الوقت
الحاضر - تشتط في عقاب المجرم، لأنه وهو فرد ضائع لا كيان له، يعتدي على
الكيان المقدس، كيان الجماعة ؛ ويُتخذ ذلك ستاراً للتنكيل بكل فرد تحدثه
نفسه بالخروج على السادة ذوي القداسة والسلطان..


وبينما
تبالغ الدول الغربية الرأسمالية في إباحة الحرية للفرد، على أساس أنه هو
الكائن المقدس ولا قداسة للجماعة ولا كيان، وينشأ من ذلك تخفيف العقوبة
على المجرم وتلمس الأعذار له.. نجد الإسلام يمسك الميزان من منتصفه، فلا
يميل في جانب الفرد ولا جانب الجماعة، لأنه لا يراهما فرداً وجماعة
منفصلين، ولا يعتبرهما معسكرين متقابلين تقوم بينهما العداوة والبغضاء،
ويرغب كل منهما في تحطيم الآخر والقضاء عليه.. بل ينظر إلى الفرد والجماعة
على أنهما كلٌّ متجاوب موحد الغاية متعاون في الأداء.. فإذا شذ فإنه
يُقوَّمُ لكي يرد إلى السبيل ؛ وسواء جاء الشذوذ من الفرد بمفرده أو جاء
من الجماعة.. فكلاهما مخطئ وكلاهما ينبغي أن يرد إلى الصواب!


وهو
إذ ينظر مرة بعين الجماعة، فيرى حقها في الطمأنينة على نفسها، والمحافظة
على حقوقها، فيمنع العدوان عليها، ويعاقب المعتدين.. فإنه ينظر في ذات
الوقت إلى الفرد، فيرى دوافعه إلى الجريمة، سواء كانت منبعثة من داخل
النفس، من نزوة الغريزة، ودفعة الشهوات، أو من الظروف الخارجية،
الاجتماعية والاقتصادية، فيقدر هذه الدوافع، وينظر إليها بعين الاعتبار..
ويعمل على إزالتها بكل طريقة ممكنة قبل أن يوقع العقوبة: بالتشريع الذي
يكفل الضرورات مرة، والتشريع الذي يصون الحرمات مرة، والتربية التي تهذب
النفس وتنظف مساربها، وتجعل روح الحب والتعاون والتكافل هي الروح السائدة
في الجماعة.. أولاً وأخيراً بالعقيدة التي تربط القلب بالله، وتوجهه
لخشيته والعمل على رضاه.. فإذا عجز ولي الأمر عن إزالة الدوافع لأي سبب من
الأسباب، أو ساورته في ذلك شبهة، فعند ذلك يدرأ الحدود بالشبهات!!


أي عدالة يمكن أن تبلغ هذه العدالة؟!


"
روي أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى
بهم عمر، فأقروا، فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم، فلما ولى رده. ثم قال:
أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل
ما حرم الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم. ثم وجه القول لابن حاطب بن أبي
بلتعة فقال: وايمن والله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك! ثم قال: يا
مزني، بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة. قال عمر لابن حاطب: اذهب
فأعطه ثمانمائة "!


فهذه
حادثة واضحة الدلالة على أن " المجرم " لا يؤخذ بذنبه حتى ينظر الحاكم
أولاً في دوافع الجريمة، فيزنها بميزان الحق والعدل، ويبحث عن المسئول
الحقيقي فيها، فيوقع العقوبة عليه. وقد كان المسئول في هذا الحادث هو "
السيد " الذي يمثل الملاك! بينما أعفى " المجرم " من العقاب، لأنه اعتبره
واقعاً تحت ضغط الضرورة التي تغلب الإنسان على نفسه وتدفعه إلى الانحراف.
وهي كذلك تطبيق عملي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات".


وإن
الدول " الحرة " التي تعطف اليوم على المجرم، وتتلمس له المعاذير، وتخف
عنه العقوبة أو ترفعها عنه - بعد أن كانت تشتد عليه وتقسو - هذه الدول
تصنع ذلك بروح أخرى غير روح الإسلام! فعلم النفس التحليلي، وغيره من
الدراسات النفسية والاجتماعية، يبرر الجريمة اليوم على أساس سلبية الإنسان
إزاء الدوافع الداخلية أو الخارجية، وانعدام " الإرادة " التي تقوم عليها
" المسئولية ". ولكن الإسلام لا يهبط إلى هذا المستوى في نظرته إلى
الإنسان. إنه لا يلغي كيانه الإيجابي الفاعل المريد. ولا يسقط عنه
مسئوليته كإنسان. وإنما هو - مع ذلك - يعطف عليه في لحظة الضعف، ويدرأ عنه
الحدود بالشبهات.. فهو في الواقع عطف مضاعف - بالنسبة للمستوى الرفيع الذي
يطالب به الإنسان - وهو عطف أكرم ولا شك من ذلك الذي تمارسه الدول " الحرة
" على كائن لا إرادة له في نظرها ولا كيان!


أما
الدول الجماعية التي تكفل للناس حاجاتهم، وتجعل الدولة مسئولة عنها، وتغني
الناس - فيما تقول - عن الجريمة، فإنها تأخذ ثمن ذلك دكتاتورية بشعة،
وتحكماً في كل صغيرة وكبيرة، واستعباداً للدولة. بينما كان عمر - الذي طبق
هذا المبدأ، مبدأ مسئولية الجماعة ومسئولية الدولة عن حاجة الأفراد [101]
- هو الذي يقول: " إن أحسنت فأعينوني، وإن وجدتم في اعوجاجاً لقومناه بحد
السيف! " فلا يغضب، بل يقول في هدوء وطمأنينة:


" الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد سيفه! ".


* * *


الشريعة عادلة في ذاتها، ومطبقة بالمساواة على الجميع.


ولكن هذا وذاك لا يستنفدان كل معاني العدالة في شريعة الإسلام.


ما
زالت هناك " الضمانات " المختلفة للفرد الذي يوجه له الاتهام: ضمانة الصدق
في الاتهام ذاته. وضمانة حسن التحري. وضمانة التحقيق وضمانة التنفيذ.


 (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
[102].


فهذه
الضمانة الأولى.. لا يؤخذ أحد بالظنة. ولا بد أن يوزن الاتهام ذاته ليرى
مبلغه من الصدق ومبلغه من الجد، فللناس حرماتهم المصونة وكراماتهم التي لا
يجوز أن تمس.. إلا بالحق.


 (وَلا تَجَسَّسُوا) [103]


فهذه هي الضمانة الثانية.. لا تكون الجاسوسية من وسائل الإثبات!


وقد
روي أن عمر مر ببيت رابته منه أصوات.. فتسور الجدار فوجد قوماً يشربون
ويغنون فأراد أن يعاقبهم.. فقام له صاحب االدار فقال عمر: وما ذاك؟ قال:
إن الله تعالى يقول: (وَلا تَجَسَّسُوا) وأنت تجسست علينا. ويقول: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) وأنت تسورت علينا! فلم يجد عمر أمامه إلا أن يستتيبه!


ثم
ضمانات التحقيق.. وهنا يرتفع الإسلام إلى القمة التي لم تبلغها الإنسانية
في غير الإسلام إلا منذ فترة قريبة، وبدافع الصراع الدموي الطويل الذي
فصلناه من قبل، لا بدافع الإنسانية الطليقة التي تكرم " الإنسان " حتى في
لحظة الهبوط!


إن
المحقق ليست مهمته الإيقاع بالمجرم وتضييق الخناق عليه في التحقيق! ولا
يجوز له أن يستخدم وسيلة من وسائل الإرهاب تنتهي بالاعتراف.


جاء
في سنن أبي داود (ج 4 ص 191): " حدثنا عبد الوهاب بن بجدة.. أن قوماً من
الكلاعيين سرق لهم متاع. فاتهموا أناساً من الحاكة، فأتوا النعمان بن بشير
صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فحبسهم أياماً ثم خلى سبيلهم. فأتوا
النعمان فقالوا: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ فقال النعمان: ما شئتم!
إن شئتم أن أضربهم.. فإن خرج متاعكم فذاك، وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما
أخذت من ظهورهم! فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم الله وحكم رسوله صلى
الله عليه وسلم " [104].


أما الذي يعترف بنفسه.. فالقمة التي وصل إليها الإسلام بشأنه عجب عاجب في التاريخ!


"
حدثنا موسى بن إسماعيل.. أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بلص قد اعترف
اعترافاً ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما إخالك سرقت؟! " قال: بلى! فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، ثم أمر فأقيم عليه الحد " [105].


أما
قصة ماعز بن مالك الذي اعترف على نفسه بالزنا فهي قصة مشهورة. فقد ظل يجيء
إلى الرسول مرة بعد مرة يعترف لديه والرسول صلى الله عليه وسلم يرده، حتى
اعترف أربع مرات، فعاد الرسول يسأله ويستوضحه وينفي له التهمة أو يفتح له
طريق الخلاص! فيقول له: " لعلك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت ".


وماعز يصر ويقول لا! فقال له: " أزنيت؟ " قال: نعم! قال: " فهل تدري ما الزنا؟ " [106]. فما أقام عليه الحد حتى اطمأن اطمئناناً كاملاً أنه يصر على الاعتراف ولا يريد أن يدرأ عن نفسه العذاب!


فإذا كان هذا هو جو التحقيق فلا مجال بطبيعة الحال لشيء من الوسائل البشعة التي تتخذ في غير الإسلام.


أما
التنفيذ بعد كل هذه الضمانات.. التنفيذ في مجرم تثبت عليه التهمة من غير
إكراه، ووقعت عليه عقوبة في ذاتها عادلة، ووقعت لأنه لا شبهة في الجريمة
تدفع عنه الحد.. التنفيذ بعد ذلك كله يحمل ضماناته!


حدثنا أبو كامل.. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه " [107].


وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تعذبوا بعذاب الله " [108] (أي النار).


وقال صلى الله عليه وسلم: " فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة " [109].


ولكن هذا ليس كل ما هناك...


لقد بلغنا العدالة ولم نبلغ بعد قمة الإسلام!


إن
المجرم إذا وقعت عليه العقوبة بعد هذا الاحتياط كله.. المجرم الذي لا شبهة
في جريمته.. المجرم الذي لا عذر له في ارتكابها.. وإنما هي نزوة من نزوات
النفس الشريرة، ودفعة من دفعات الهبوط..


ذلك
المجرم لم يخرج بعد من دائرة الإنسانية، بل لم يخرج من دائرة الجماعة
الإسلامية! إنه لا ينبذ ولا يضطهد.. ولا يعيّر بجريمته.. ولا يذّكر بها..
ولا يحول شيء قط بينه وبين أن يعود إلى الجماعة - في لحظته - تائباً
منيباً إلى الله، فيقبل فيها وتفتح له القلوب.


" حدثنا قتيبة بن سعيد.. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب، فقال: " اضربوه ".
قال أبو هريرة، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما
انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا هكذا. لا تعينوا عليه الشيطان " [110].


وفي حادث السارق الذي مر ذكره، والذي أمر الرسول بإقامة الحد عليه، قال له الرسول: " استغفر الله وتب إليه " فقال: استغفر الله وأتوب إليه، فقال: " اللهم تب عليه اللهم تب عليه " ثلاث مرات[111].


نعم
إن الإسلام لا يحب أن يفقد نفساً واحدة يمكن أن تتوب إلى الله وتهتدي
إليه. إنه لا يصر على لحظة الضعف التي تصيب فرداً من البشر، ولا يُعنِتُهُ
من أجلها. وإنما يفتح له بابه لكي يعود.. يعود إلى الله ويعود إلى
الجماعة، فينطلق فيما هي منطلقة من الخير، ويأخذ لنفسه من ذلك الخير
بنصيب. ولا تقف الجريمة العابرة حاجزاً في حياته، ولا تسمم أحاسيسه
وأفكاره، ولا توصد أمامه الأبواب فيصبح مجرماً مصراً على الإجرام بعد أن
كان مجرماً بغير قصد. وذلك معنى قول الرسول الكريم: " لا تعينوا عليه الشيطان ".


ومع
ذلك فإن تكريم الرسول الكريم للبشرية.. " للإنسان " الذي خلقه الله في
أحسن تقويم.. حتى وهو يرتد في لحظة لأسفل سافلين.. تكريمه له ما دام لا
يصر على الإثم ولا يمرد عليه، ولا يقف عند الأحياء الذين يرجوهم للجماعة،
ويستبقيهم لخير يمكن أن يصنعوه في الأرض، أو ليتقي شراًّ يمكن أن يصدر
عنهم - أي لأهداف " عملية " واقعية! - وإنما يتجاوز ذلك إلى آفاق أخرى،
رفافة شفيفة، نسيجها الرحمة الخالصة، والتكريم الخالص.. لوجه الله!


جاء
في قصة ماعز بن مالك: ".. فأمر به فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم
رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم
تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب. فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار
شائل برجليه، فقال: " أين فلان وفلان؟ " فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: " انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ". فقالا: يا نبي الله، من يأكل من هذا؟ قال: " فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكلٍ منه. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ".


يا الله.. ويا نبي الله.


ألا إنها آفاق ما بعدها آفاق.. ألا إنه النور الذي يشع من هذا القلب الكوني الذي يتصل بالله، ثم يفيض بالرحمة والهدى على عباد الله..


وذلك
كله قبل أن يقول قولته علم الاجتماع وعلم الاقتصاد، وعلم النفس التحليلي
وعلم الجريمة، قبل أن يتفلسف المتفلسفون في هذا الميدان بأكثر من ألف عام.


ــــــــــــــــ



[85] رواه عبد الله بن عباس (ورد في كتاب الكامل لابن عدي وفي مسند أبي حنيفة للحارثي).


[86] ذكره صاحب مصابيح السنة في الصحاح.


[87] سورة الزمر [ 5 ].


[88] سورة آل عمران [ 191 ].


[89] سورة المؤمنون [ 115 - 116 ].


[90] سورة النحل [ 90 ].


[91] سورة النساء [ 58 ].


[92] سورة المائدة [ 8 ].


[93] سورة الأنعام [ 152 ].


[94] سورة النساء [ 1 ].


[95] سورة الحجرات [ 13 ].


[96] سورة يس [ 32 ].


[97] مسلم وأبو داود.


[98] رواه الستة.


[99] انظر بالتفصيل فصل " الإسلام والرق " في كتاب " شبهات حول الإسلام ".


[100] الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.


[101] مبدأ كفالة الدولة للأفراد ومسئوليتها عن جميع أمورهم مبدأ صريح في الإسلام، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول:
لو أن بغلة عثرت بصنعاء لكنت مسئولاً عنها لِمَ لَم أسوِّ لها الطريق!
ويقول ابن حزم في صراحة إن (الجماعة) مسئولة عن كل فرد فيها، وإن للإنسان
أن يقاتل من في يده طعامه أو شرابه (إذا منعه عنه) فإن قتل لأهله الدية،
وإن قتل تدفع لا يقام عليه الحد!




توقيع : admin








مواضيع ذات صلة


9- قَبَسَـاتٌ مِنَ الرسول [ادرءوا الحدود بالشبهات] Collapse_theadتعليمات المشاركة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة




Powered by wsaya
Copyright © 2015 wsaya,